بسم الله الرحمن الرحيم
إجابةٌ عن سؤال مهم متعلق بالأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة لشيخنا الفقيه أبي عبد الله محمد بن حزام حفظه اللّــــه ورعاه ونفع به الإســلام والمسلمين.
والذي أجاب عنه حفظه الله في ليلة الإثنين ٢٢من شهر ربيع الثانــــــي للعام السابع والثلاثين بعد أربعمائة و ألف من الهجرة النبويه .
الســــــــــــؤال:-
ماحكم الأخذ من اللحية فيما زاد على القبضة ، وهل ثبت أن الصحابة كانوا يأخذون فوق القبضة، وهل يصل اعفاؤها فوق القبضة إلى حد البدعة كما ذكر الإمام الألباني رحمه الله ؟
الإجــــــــــــابة:-
هذا السؤال سُئلنا عنه قبل أيام وأخرتُه حتى أنظر الآثار في المسألة ثم راجعت كتب التراجم وكتب التواريخ للنظر في أفعال الصحابة رضوان الله عليهم في هذه المسألة، فدونكم هذا البحث المختصر:
أولاً:- قبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية ولم يخص ولم يُقيد صلى الله عليه وسلم كما هو معلوم حديث ابن عمر في "الصحيحين " وقد ورد بألفاظٍ في " البخاري " عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب ، وفي رواية عند" البخاري" انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى وأخرجه "مسلم" أيضاً عن ابن عمر احفوا الشوارب وأعفوا اللحى ولفظ آخر عند "مسلم" خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى ورواه "مسلم " أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه جزوا الشوارب وأرخوا اللحى .
إذن ورد باللفظ الأول اعفوا اللحى والإعفاء تركها ،واللفظ الثانــــــي وفروا اللحى ، واللفظ الثالث أوفوا اللحى ، واللفظ الرابع أرخوا اللحى.
كلها فيها الأمر بإعفائها لم يقيد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يصل إلى حد القبضة ثم يقص ، "وماكان ربك نسيا ". ولوكان الأمر على ذلك لبينه صلى الله عليه وسلم.
وقد احتج الإمـــــام الألبــاني رحمه الله تعالـــى على عدم إعفائها فوق القبضة بآثار ذكرها عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، وابن عباس رضي الله عنهما.
أثر ابن عمر عنه طرق متكاثرة وأحد طرقه في صحيح البخاري أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته وأخذ مازاد على القبضة .
وعامة طرق أثر ابن عمر رضي الله عنهما فيه أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض وأخذ مازاد عن القبضة إلا طريقا أخرجها الخلال في "الترجل" من طريق ابن أبي ليلى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وفيه ضعف ؛ فيه أنه كان يأخذ مازاد عن القبضة بدون تقييد حج أو عمرة . وكذا طريق أخرى عند أبي داود ولكنها من طريق سالم بن مروان المفقع وهو مجهول الحال.
اعتمد الإمـــــام الألبــاني رحمه الله على هذا الأثر بأن ابن عمر هو نفسه الذي روى الحديث وقد أخذ مازاد على القبضة ، وكذلك جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه جاء عنه أنه كان يقبض على لحيته ثم يأخذ مافضل عن القبضة .
أخرجه ابن أبي شيبة من طريق شعبة عن عمرو بن أيوب بن أبي زرعة عن أبي زرعة عن أبي هريرة به .
عمرو بن أيوب شيخ شعبة في هذا الأثر لم يعثر له على توثيق من معتبر ولم يرو عنه إلا شعبة، لم يقفوا له على رواية إلا من طريق شعبة، فهو في حيز الجهالة ،إلا أن بعض أهل العلم قد يقوون من روى شعبة عنه من الرواة لأن شعبة كان يتحرى في الرواة. فلعل الإمـــــام الألبــاني رحمه الله صحح الأثر من هذا الباب وإلا فعمرو بن أيوب بن أبي زرعة لم يعثر توثيقه عن معتبر ولم يرو عنه إلا شعبة ، فالأثر محل اجتهادٍ بين أهل العلم فمن رآى أن يقوي برواية شعبة صحح الأثر وأما على الحكم عليه بالجهالة فالأثر ضعيف لأن عمرو بن أيوب بن أبي زرعة لم يوثق من إمام معتبر.
وجاء أثر عن أبي هريرة بلفظ أنه كان يحفي عارضيه وهذا من طريق رجلٍ مبهم :
والعجب لما ذكره الإمـــــام الألبــاني رحمه الله مع أنه فيه مخالفه لما يقوله مافوق القبضة ؛ فإن الإحفاء أشد من أخذ مافوق القبضة . ماكان ينبغي أن يُذكر مثل هذا الأثر أخرجه ابن سعد في " الطبقات " من طريق أبي هلال عن شيخٍ من أهل المدينة قال : رأيت أبو هريرة يُحفي عارضيه، يأخذ منهما . فهذا رجلٌ مُبهم لايُحتجُ به .
الأثر الثالث أثر ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " . ثم ليقضوا تفثهم أخرج ابن جرير الطبري بإسنادٍ حسن عن ابن عباس أنه قال حلق الرأس وتقليم الأظفار ونتف الإبط والأخذ من العارضين . العارضان هما جانبا اللحية .
أثر ابن عباس ليس فيه حجة لما استدل به، لأنه ليس فيه تقييد بقبضة أو بدون قبضة ، وهو من طريق هُشيم بن بشير قال حدثنا عبدالملك وهو ابن أبي سليمان العرزمي عن عطاء عن ابن عباس . الإسناد صالح للتحسين عبدالملك بن أبي سليمان حسن الحديث على الصحيح.
واستدل الإمـــــام الألبــاني رحمه الله بأثر عن إبراهيم النخغي أخرجه البيهقي في "الشعب " بإسنادٍ صحيح إلى إبراهيم النخعي قال : كانوا يأخذون من جوانبها وينظفونها، يعني اللحية.
أولاً: ابراهيم النخعي لم يدرك أحداً من الصحابة فإذن هو ينقل عن غير الصحابة .
ثانياً : ليس فيه دلالة للمراد ؛ لأن قوله يأخذون من جوانبها ليس فيه بيان المقدار ، مع ذلك الحجة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الإمـــــام الألبــاني رحمه الله يقول : هؤلاء الصحابة هم الذين رووا الحديث ، وهم الذين أخذوا ما فوق القبضة يعني ابن عُمر وأبا هريرة.
أما أثر ابن عباس فليس فيه مايتعلق بالقبضة .
ثم يذكر الإمـــــام الألباني في بعض مباحثه أنه لم يصح عن أحدٍ من الصحابة خلاف ذلك 'لم يثبت خلاف ذلك ' .
وكنا نرى أن الأخذ بالأدلة أمر واضح عند الناس،أعني بعموم الأدلة اعفوا اللحى ـ حتى رأينا بعض الناس قد تأثروا بكلام الإمام الألبــاني رحمه الله فرأينا أنه لابد من البيان ولابد من تتبع المسألة ، والمسألة مبنية على أمرين .
الأمر الأول :- هل ثبت عن الصحابة رضوان الله عليهم خلاف ذلك.
الأمر الثانــــــي :- هل يصلح أن نُقيد العمومات بأفعال هؤلاء الصحابة وكلا الأمرين منقوض .
أولاً: الوارد عن الصحابة قد ثبت إعفاء اللحية أكثر من ذلك ، فقد ثبت عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كانت لحيته طويلة وُصِف بأنه كان عظيم اللحية وكان طويل اللحية، وكل من ترجم لعثمان بن عفان رضي الله عنه ووصفوه ذكروا أن لحيته كانت طويلة حتى إن الخوارج الذين خرجوا عنه كانوا يعيرونه بطول لحيته يقولون له :نعثل تشبيهاً له برجل من أهل مصر كانت لحيته طويلة فيقولون له النعثل : هذا فعل الخوارج إنما ذكرناه فقط لنعلم أن لحيته كانت طويلة ، وهذه الأسانيد إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه .
أخرج الطبراني في "الكبير " برقم ٩٢ وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" برقم ٢٠٧ من طريق أسد بن موسى عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عبدالله بن شداد بن الهاد قال : رأيت عثمان بن عفان فوصفه ثم قال : طويل اللحية حسن الوجه.
عادة وعرفا ولغة: ماستوصف بطويلة إلا وهي فوق القبضة أما لوكانت قبضة فقط مايوصف بأنها طويلة .في إسناده ابن لهيعة.
لكن روى الأثر عنه عبدالله بن وهب وعبدالله بن المبارك
وهذان الإمامان روايتهما عن ابن لهيعة أحسن من غيرها ، والإمام الألبــاني رحمه الله يصحح هذه الرواية ـ يصحح رواية ابن المبارك ورواية عبدالله بن وهب عن ابن لهيعة.
فقد أخرج الأثر الحاكم وأبو نعيم في "معرفة الصحابة " برقم (٢٠٨) من طريق عبدالله بن وهب عن ابن لهيعة فذكره بلفظ ، وكان طويل اللحية حسن الوجه ، وقال عن أبي عبد الله مولى شداد بن الهاد
الرواية الأولى عن عبدالله بن شداد والثانية أبي عبدالله مولى شداد كلاهما ثقة سواء كان هذا أو هذا إلا أن الرواية التي فيها عن أبي عبد الله من طريق ابن وهب وابن المبارك.
وأخرجه ابن عساكر ( الجزء التاسع والثلاثين صــ ١٦) ـ من طريق عبدالله بن المبارك عن ابن لهيعة فذكر أنه كان طويل اللحية حسن الوجه.
وله طريقٌ أخرى عند ابن سعد في إسناده الواقدي وهو متروك : (ج٣ صــ ٥٨).
واشتهر هذا الأمر جداً في كتب التواريخ حتى إنه إجماع من جميع من ترجم لأمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه كان طويل اللحية .
والإمام الألبــاني يصح أن نحاجه بهذا، لأنه يصحح رواية عبدالله بن المبارك وعبدالله بن وهب عن ابن لهيعة .
أيضاً ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان طويل اللحية عظيم اللحية : أخرج ابن سعد في "الطبقات"( ج٣ صــ ٢٥) قال أخبرنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال رأيت علياً وكان عريض اللحية قد أخذَّت مابين منكبيه.
إذا تصورت لحية أنها قد أخذت مابين المنكبين لاشك أنها أكثر من القبضة.
وأخرجه أيضاً الطبراني برقم( ١٥٧) من طريقين عن إسماعيل بن أبي خالد به ـ إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين ، فالوصف بأن لحية علي بن أبي طالب ملأت مابين منكبيه لاشك أنه أكثر من القبضة.
قال ابن سعد رحمه الله في المصدر المذكور : وأخبرنا الفضل بن دكين قال أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن أبيه أبي إسحاق قال رأيت علياً فقال لي أبي قم ياعمرو فأنظر إلى أمير المؤمنين فقمت إليه فلم أره يخضب لحيته ضخم اللحية. وأخرج ابن سعد أيضاً في "الطبقات "(ج٣ صـ ٢٦) ، وأبو نُعيم في "معرفة الصحابة" برقم ـ٢٨٧ـ ، وابن عساكر (ج٤٢ صـ ٢٣) من طريق رزام بن سعيد قال سمعت أبي ينعت علياً قال : كان رجلاً عظيماً طويل اللحية.
رزام بن سعيد ثقة وأبوه لم يؤثر له على توثيقٍ من معتبر لكنه يتقوى بالطرق التي قبله.
هذان صحابيان وقفنا عليهما بالأسانيد أنهما كانا ممن عظمت لحاهم ووصف عثمان بأنه كان طويل اللحية ، وعلي بن أبي طالب أنها ملأت مابين منكبيه ، والرواية الأخرى أيضاً طويل اللحية .
وممن وُصِفَ بأنه عظيم اللحية من الصحابة رضوان الله عليهم لكن لم نقف عليها على أسانيد؛ عمرو بن العاص رضي الله عنه ، وقدامة بن مظعون ، وعثمان بن مظعون رضوان الله عليهم ـ وصفوا بطول اللحى وعظمها .
إذن الأمر الذي ذُكر أنه لم يُخالف ابن عمر وأبو هريرة على صحة الأثر عن أبي هريرة موقوف.
بلى قد خولِفوا من صحابة آخرين، بل في حديث خباب بن الأرت في البخاري أنه سئل: كيف كنتم تعرفون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: باضطراب لحيته ـ
هذا قد يُستأنس به على كبرها على أنهم قد أجابوا عن ذلك بأن الاضطراب يحصل حتى وإن كانت نحو القبضة ـ قد يحصل اضطراب فيها ـ لكن لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ ما فوق القبضة مع وصفهم للحيته صلى الله عليه وسلم أنه كان كثير شعر اللحية كما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة لما وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال كان كث اللحية وفي رواية كان كثير شعر اللحية ، ووصفه علي بن أبي طالب كما في مسند أحمد بسند فيه ضعفٌ ولكن يشهد له حديث جابر بن سمرة قال: كان ضخم اللحية.
مع ضخامتها وكثافتها وكثرة شعرها صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه كان يأخذ مازاد على القبضة.
فإذا كان قد نقل عن الصحابة نقل عن ابن عمر مثلاً وعن أبي هريرة : فلو كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم الأخذ فوق القبضة لنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فهم أحرى بنقل أفعاله صلى الله عليه وسلم ،
والذي يُمكن أن يقال فيما فعله الصحابة ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة أنه اجتهاد منهم لاسيما أثر ابن عمر وابن عباس اجتهادٌ منهم في موضعٍ معين في موضعٍ مخصوص ، وهو عقب التحلل من الحج أو العمرة اجتهدوا فيه وأخطأوا، فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من عارضيه عند أن تحلل من عمرته ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من طولها أو من عرضها ولم يثبت في ذلك أي حديث.
وأما مارواه الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها أو من عرضها: ففي إسناده عمر بن هارون البلخي وهو متروك وقد كُذب .
إذن انتقض الأمر الأول بأن الصحابة قد خالفوا بل ظاهر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعفى لحيته فوق القبضة ؛ ظاهر النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم أعفى لحيته فوق القبضة .
وقد نُقل عن جماعةٍ من التابعين في القرون المفضلة إعفاءها وتطويلها كما هو مشتهرٌ في كتب التراجم ممن وُصِف بذلك ' أبو صالح الذي يروي عن أبي سعيد وأبي هريرة وعن جماعة من الصحابة ذكوان السمان كانت لحيته كما ذكر في تراجمه طويلة وعظيمة فلو كان أمراً يستنكر لأنكره الصحابة وهو في عصر الصحابة ويجالس الصحابة ولم ينكر عليه أحد.
وممن نقل عنه أيضاً علقمة بن مرثد وصف بطول اللحية ، ومجالد بن سعيد ، ويزيد الرشك، وحسين بن حسن بن عطية ، وسالم بن أبي حفصة، وإسماعيل بن عبدالرحمن السدي ، ويحيى بن يحيى الذي يروي عنه مسلم ، وقبله الإمـــــام مالك رحمه الله وصف بطولها وضخامتها ' ، والفضل بن غانم ، وعباد بن زياد بن أبي سفيان الأموي وآخرون ولم ينقل نكي ر من الصحابة في هذا الأمر .
ثم أيضاً لو كان أمرا يستنكر لأنكر ابن عمر على بقية الصحابة . لماذا ما أنكر عليهم، بل ظاهر الحال يدل على أنه تفرد بهذا الأمر ولم ينُقل عن غيرهِ من الصحابة أنه فعل ذلك مع أنه لاشك ولاريب أنه سيوجد العدد الكبير من الصحابة من تكون لحاهم طويلة ، فالصحيح أن هذا الأمر منقول وأن الصحابة يوجد منهم من كانت لحاهم عظيمة وطويلة.
والأمر الثانــــــي: مايصلح أن يقيد الحديث بأن الراوي لم يفعل به أو قيده بفعله، فالصحيح في هذه المسألة أنه يكون رأياً رآه ولا يصح أن يُقيد العموم ، لو لم ترد هذه الآثار عن الصحابة في إعفاء لحاهم لما تجرأنا أن نقيد العموم الوارد في الحديث : اعفوا اللحى : وارخوا اللحى : وفروا اللحى: بفعل صحابي مجتهد رضي الله عنه يخطئ ويصيب ما نتجرأ على ذلك ، وهم وإن كانوا من خيرة الخلق وخيرة الصالحين بعد الأنبياء إلا أنهم ليسوا معصومين من الخطأ والله عزوجل يقول " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ماتذكرون "
على أن ابن عمر إنما فعله في حالة عند تحلله من حجٍ أو عمرة ولم يثبت في غير ذلك الأثر الوارد أنه عام ولم يقيده عند التحلل فيه ضعيف كما تقدم.
ثم أيضا ورد في بعض طرق أثر ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أراد الحج لم يتعرض للحيته حتى يحج ثم يأخذ منها فإن كان الأمر كما ذكر الإمام الألباني رحمه الله، وهو وجوب أخذ ما زاد عن القبضة، فلم تركها ابن عمر إلى وقت الحج، ولم يتعرض لها قبل ذلك؟!.
فالصحيح في هذه المسألة هو إعفاء اللحية وتركها مطلقاً ، وإن زادت عن القبضة ؛ لأنه هو الظاهر من فعلهِ صلى الله عليه وسلم وهو الذي فعله كبار الصحابة كعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما .
نقول هذا مع الاعتراف بأن أصحاب المذاهب الأربعة كلهم لايرون تحريم الأخذ مما زاد على القبضة إلا أن الإمام مالكا في رواية قال : إذا طالت طولاً فاحشاً أخذ منها ولم يقيدها بالقبضة ـ إذا طالت طولاً فاحشاً يخرج عن المعتاد فقال لابأس بالأخذ ـ فأصحاب المذاهب الأربعة كلهم لايرون التحريم في أخذ مازاد على القبضة، بل الحنفية بالغوا وقالوا يكره أن يتركها فوق القبضة ـ مع أنهم يطلقون الكراهة على التحريم وصرح بعضهم بالتحريم ـ قال الحنفية يكره أن يتركها فوق القبضة.
بقي الحنابلة والشافعية يجوزون أخذ ما فوق القبضة وللحنابلة قول: جائز مع الكراهة يعني يكره أخذ مافوق القبضة. والإمام احمد رحمه الله ظاهر النقولات عنه أنه يرى تركها ويرى جواز الأخذ من قوق القبضة لأنه لما سُئل عن الأخذ من اللحية ذكر أثر ابن عمر أنه أخذ ما فوق القبضة قال: كأن هذا عنده الإعفاء.
على كلٍ أصحاب المذاهب الأربعة كلهم لم يحرموا ذلك ولكن كره جماعة منهم أن يأخذ ما زاد على القبضة، ومِمّن رأى ان يترك ويكَره الأخذ الحسن ، وقتادة ، والإمام النووي رحمه الله خالف مذهبه وقال يكره الأخذ ولكنه لم يصرح بالتحريم .
وأقول: الأدلة تدل على وجوب إطلاقها وإعفائها وإرخائها ، وليس لنا أن نخالف ماجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في المسألة إجماع ، ولم ينقل إجماع في المسألة.
فالصحيح وجوب إعفائها مطلقاً وهو ظاهر قول ابن حزم فقد حكى الإجماع على وجوب إعفاء اللحية نقله عن ابن مفلح في "الفروع" (ج١ صـ ١٣١) ولم يقيده بالقبضة ، ولكن هذا الإجماع مبين بما تقدم أن المراد عند جمهور الفقهاء وجوب إعفائها إلى القبضة ثم مازاد عن القبضة لم يوجب الجمهور ذلك .
والصحيح هو وجوب إعفائها مطلقاً وهو الذي رجحه الإمـــــام ابن باز رحمه الله ، والإمام العثيمين ، والإمام الوادعـــــي رحمة الله عليهم رجحوا ذلك، وهذا هو الصحيح .
أما مايتعلق بأخذ ما دون القبضة فعامة أهل العلم على تحريم ذلك، إلا قول عند الشافعية بالكراهة .
قال ابن عابدين: وأما الأخذ منها وهي دون القبضة فلم يبحه أحد.ٌ وهذا مبالغة فقد وجد عند بعض الشافعية أنهم رأوا الكراهة فقط لكن نستفيد من هذا أن الجمهور على أن تقصيرها محرم، وهو الصحيح أيضا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإعفاء .
أما الحلق فقد صرح أصحاب المذاهب الأربعة بالتحريم ' تحريم الحلق ' واستدلوا بنفس الأدلة : قصوا الشوارب وأعفوا اللحى وأنه مشابهة للمشركين ، ولكن لم يقع في المسألة إجماع لخلاف عند بعض الشافعية خلاف غير معتبر خلاف لبعض الشافعية قالوا بالكراهة فقط.
الله سبحانه وتعالى يقول " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون " . قصوا الشوارب وأعفوا اللحى.
بعد هذا المبحث، فالإنسان لا ينكر على من أخذ بقول من يرى الأخذ فوق القبضة عن اجتهاد لا عن تقليد من أخذه اجتهادا ما ينكر عليه قد فعله بعض الصحابة ، وإن كنا نراه خلاف الصواب ونراه قولاً مرجوحاً ولكن كما سمعتم الخلاف له وجهٌ من النظر ، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخذ النبي صلى الله عليه وسلم من فوق القبضة لنقل إلينا .
نذكر بعض المراجع في هذه المسألة لمن أحب أن يراجعها :-
"فتح الباري" عند الحديث (٥٨٩٢).
"المجموع للنووي" الجزء الاول (ج١صـ ٢٩٠).
"الفواكه الدواني" (ج٢صـ ٣٠٧).
"الفروع" لابن مفلح (ج١ صـ ١٥١).
"مسائل الخلال" في الترجل
(صـ ٩٧) ومابعدها.
"كشاف القناع" (ج١ـ صـ١٧٥).
"منار السبيل" ( ج١ ـ صـ٢٣).
"الفقه على المذاهب الأربعة" (ج ٢ ـ صـ ٤٤)ومابعدها.
"الموسوعة الفقهية الكويتية "
( ج ٣٥ صـ ٢٢٤) .
"السلسلة الضعيفة" للإمـــــام الألبــاني ( رقم الحديث ٢٣٥٥ ـ ٦٢٠٣).
والحمد لله رب العالمين